العدد 6111
الثلاثاء 08 يوليو 2025
banner
"البكّاؤون".. حين تصبح الدموع هوية.. قراءة في رواية عقيل الموسوي
الإثنين 30 يونيو 2025

في رواية "البكاؤون" للروائي البحريني عقيل الموسوي، لا تُروى الأحداث بقدر ما يُذرف الحكي من بين المآقي. الرواية – التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر 2025 – تقدم تراجيديا يومية لا تُبنى من ذروة الحدث، بل من استقرار الألم، واستدامة الحزن، و"اعتياد البكاء" بوصفه ممارسة اجتماعية وعقائدية، وشكلًا من أشكال الانتماء العميق.

منذ الصفحات الأولى، يدرك القارئ أن البكاء في هذه الرواية ليس حالة شعورية عابرة، بل نظام حياة، و"هوية". يقول السارد في نهاية الرواية: "إننا قوم بكّاؤون، جئنا إلى الدنيا لكي نسطر حياتنا بالدموع" (ص 373). هذا التصريح ليس مجرد خاتمة بل تلخيص كامل للرؤية السردية التي اختارها الموسوي، حيث يصبح البكاء رابطًا أقوى من الدم، وطقسًا يوحّد العائلة والمجتمع، بل يعلي من شأن الفرد داخل تراتبية مذهبية معقدة.

الرواية تنطلق من المنامة القديمة، من عائلة "آل كاظم"، وتلاحق مساراتها عبر جيلين على الأقل، لكنها لا تفعل ذلك من خلال الحبكة التقليدية، بل عبر "نثر الزمن" على شكل ذكريات، وأوجاع، ومآتم، وحكايات مكتنزة بالندم والغربة والتفكك العاطفي والديني.

"ليست حياتي سوى طرق أخوضها، أخرج من واحدة وألِج في أخرى، وكان اليُتم أول طريق لي في السابعة من عمري" (ص 356). هكذا يبدأ الراوي صادق جواد رسم طريقه في الحياة، طريق يبدأ باليُتم ويمر عبر فصول من التيه العقائدي والعاطفي، حتى يصل إلى لندن، وهناك، لا يجد الوطن بل يجد الغربة وقد اكتملت: "بريطانيا بلاد أحتملها لكنها لا تحتملني، تُسكنني لا تحتضنني، تأويني لا توطّنني" (ص 352).
الرواية تقترح أن الدين لا ينتقل وراثيًا، ولا يمنح الطمأنينة بالضرورة.

"الدين لا ينتقل إلى الأولاد مثلما تنتقل الأمراض الوراثية" (ص 358)، بل إنه، كما يقول السارد، قد يكون مصدرًا لتعاسة البشر: "فهمت أن الأديان هي سبب تعاسة البشر، تعدهم بالسعادة في السماء لأنها لا تستطيع أن تهبها لهم على الأرض" (ص 207). وفي هذا السياق، تأتي تجربة صادق مع البهائيين لتمثل لحظة انفتاح وتجاوز للهويات المغلقة: "تعلّمت من البهائيين أن العالم برمته وطن للإنسان" (ص 359).

من جهة أخرى، تعكس الرواية قدرة فائقة على بناء مشهد داخلي غنائي – شبه صوفي – حيث الأصوات الداخلية تشكّل المشهد أكثر من الحوار أو الفعل الخارجي. لحظة الحب مثلًا تصبح لحظة صوفية تتداخل فيها الأجنحة والمخالب:
"ساعاتنا في الحب لها أجنحة، ولها في الفراق مخالب" (ص 193، عن شكسبير).
وفي المقابل، حتى الفلسفة تبدو عاجزة حين تقف أمام "الدمع الخام": "لا يوجد بكاء مُرّ، لأن الدموع مالحة، ليست مُرّة" (ص 200).
بهذه اللغة العميقة والمشحونة، يخلق عقيل الموسوي رواية لا تهرب من الطقس، بل تحتضنه، تناقشه، وتعيد التفكير فيه. إنها ليست فقط سردًا عن

عائلة في البحرين، بل عن مجتمع كامل، عن ذاكرة طقسية تقاوم الفقد بالبكاء، وتؤسس معنى الوجود بالحزن.

"الحياة غفلة والموت تذكرة، حدث يتأرجح على طرفيه الكفر والإيمان" (ص 212).

بهذا المنطق تصبح الرواية تجربة وجودية، لا مجرد شهادة اجتماعية أو توثيق ثقافي، بل جرح مفتوح، جرح قديم، لكنه لا يتوقف عن النزف. ولعل في قول أحد الشخصيات:

"أسمع فيها شيئًا من همهمة روحي" (ص 114) ما يلخص العلاقة بين القارئ والنص.

في الختام، فإن "البكّاؤون" ليست رواية عن البحرين، بل عن الإنسان حين تكتبه الدموع، لا الحبر. وهي دعوة للتأمل لا في الغربة الجغرافية، بل الغربة الداخلية:
"لا أخشى على نفسي الغربة، بل أخشى على صادق في وطنه" (ص 76).
ف

ي هذه الرواية، الوطن هو البكاء، والهوية هي الدمع، والحقيقة الصافية تأتي حين نسكت جميع الأصوات… ما عدا صوت القلب.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية

OSZAR »