العدد 6104
الثلاثاء 01 يوليو 2025
banner
الإمام الحسين.. صرخة للعدالة وقيمة للتلاقي
الثلاثاء 01 يوليو 2025

ليس في التاريخ الإسلامي حدث ترك بصمة وجدانية وأخلاقية وروحية في ضمير الأمة كما فعلت ملحمة كربلاء. وليس بين الشخصيات الإسلامية من اجتمع المسلمون على توقيرها واستحضارها رمزًا للكرامة والعدالة كما اجتمعوا على الإمام الحسين بن علي، سبط النبي، وسيد شباب أهل الجنة، والإمام الذي ما خرج “أشرًا ولا بطرًا”، وإنما “لطلب الإصلاح في أمة جده”.
في البحرين تتجسد هذه الحقيقة، عندما يتم إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين، فتفتح المآتم أبوابها، وتنطلق المواكب والفعاليات في أجواء تسودها الطمأنينة والاحترام. وهي صورة بهية لحرية المعتقد والممارسة الدينية التي تكفلها الدولة وتحتضنها، لا باعتبارها استثناءً، بل جزءًا أصيلا من نسيج وطني وثقافي متجذر منذ قرون.
ولا شك أن هذه الشعائر التي تُمارَس في كنف من التسامح والاحترام المتبادل، تعبّر عن حالة حضارية راقية، ومجتمع تمكن من تحويل تعدديته المذهبية إلى طاقة ثقافية خلاقة، لا إلى مصدر تنازع أو انقسام.
لكن، بعيدًا عن الطقوس والمراسم، يبقى السؤال الجوهري: ما الذي يجعل الإمام الحسين رمزًا خالدًا؟ ولماذا ما تزال تضحيتُه تضرب جذورها في كل قلب حر، مسلمًا كان أو غير مسلم؟
لقد كانت كربلاء أكثر من معركة، وأكثر من لحظة استشهاد. كانت نداءً أبديًا للضمير الإنساني، وصرخة في وجه الاستبداد، وثورة أخلاقية بامتياز. لم يحمل الحسين السيف طلبًا للسلطة، ولم يذهب إلى كربلاء مدججًا بجيش أو طامعًا بملك، بل اصطحب عائلته من النساء والأطفال، وكان يدرك أن المعركة غير متكافئة وأن الغلبة محسومة سلفًا، لكنه اختار أن يُقتل حرًّا على أن يرضخ للجور، فكانت شهادته بصوت مدوٍ: “لا للذل، لا للطغيان”.
ومن هنا تتجلّى عبقرية الحسين، إذ لم يُرِد إسقاط حكمٍ بسلاح، بل فضح انحراف في المسار، ولم يرد نصرا عسكريًا بل أراد يقظة أخلاقية، وهنا تكمن قوة الحدث وروحه الخالدة.
كربلاء ليست مناسبة مذهبية، بل لحظة كونية تتجاوز الأزمنة والجغرافيا. فيها استُشهد حفيد النبي، لكنها في جوهرها استشهاد للضمير، للعدل، للحق. إنها ليست مجرد واقعة في التاريخ، بل محطة لاختبار القيم التي ندّعيها: ماذا نفعل حين يغلب الظلم؟ أنقف كما وقف الحسين، أم نصمت كما صمت كثيرون من أبناء عصره؟
في زمننا المعاصر، حيث التحديات الأخلاقية والسياسية والإنسانية تزداد تعقيدًا، تبدو الحاجة ماسة إلى استلهام تلك القيم التي مثّلها الحسين، لا باعتبارها طقوسًا محفوظة، بل باعتبارها نبراسًا للتغيير السلمي، والإصلاح القائم على الوعي لا العنف، وعلى الشجاعة لا الكراهية.
ما أحوج أمتنا اليوم إلى إعادة قراءة الحسين، لا من خلال زاوية الانتماء، بل من خلال زاوية الرسالة. فالحسين لم يمت من أجل طائفة، ولم يتحرك دفاعًا عن مذهب، بل وقف ليقول: “أنا إنسان، وأنا مسلم، وأنا مسؤول”، وهذا هو جوهر قضيته.
البحرين التي اختارت أن تُحيي ذكرى الحسين بروح الاحترام والتعددية، تقدم للعالم نموذجًا فريدًا في إدارة التنوع المذهبي بوصفه ثراءً لا تهديدًا. المآتم ليست مجرد أبنية، بل فضاءات للوعي والتأمل، والمواكب ليست استعراضًا للحزن، بل إعلان وفاء لقيم الكرامة. وما دامت هذه الفعاليات تُقام في منأى عن التسييس والتحريض، فإنها تُمثل رصيدًا وطنيًا وثقافيًا ينبغي صونه لا التشكيك فيه.
إن أجمل ما في الحسين أنه لم يكن ضد أحد، بل كان مع المبادئ. لم يدعُ إلى ثأر، بل إلى صحوة. لم يلعن أحدًا، بل واجه الطغيان بالثبات، وقال: “هيهات منا الذلة”. من هنا، ينبغي أن يُستعاد الحسين لا كرمز للفرقة، بل كقيمة موحِّدة. أن نعلّم أبناءنا أن هذا الإمام ضحّى من أجل الإنسان، لا من أجل الطائفة، وأن نُعيد تموضعه في وعي الأمة كمنارة جامعة.
ما يجمع المسلمين في الحسين أكثر مما يفرقهم حوله. كربلاء لا يجب أن تكون خندقًا للمواجهة، بل جسرًا للتواصل، ومدرسة في الشجاعة والمروءة والنزاهة. واستحضار ذكرى الحسين لا ينبغي أن يبقى محصورًا في الشعائر، بل يجب أن يمتد إلى الفكر والسلوك اليومي: في الصدق، في المروءة، في مناهضة الظلم، في الشجاعة على قول الحق.
في يوم عاشوراء، فلنستمع جميعًا إلى تلك العبارة التي قالها الحسين لأعدائه: “إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم”. إنها ليست دعوة إلى مذهب أو عقيدة، بل إلى الحرية والكرامة. وهي دعوة ما زالت، بعد أكثر من 13 قرنًا، تنتظر من يصغي إليها بصدق، من يترجمها إلى واقع حي، لا إلى شعار موسمي.
لقد رفع الحسين صوته ليوقظ الأمة، لا ليقسمها. وإن أكبر وفاء لذكراه أن نُترجم هذا الصوت في سلوكياتنا، في خطابنا، في تعاملنا مع المختلف، ومع ذوي العقائد الأخرى. فكرامة الإنسان لا تُختزل في معتقده، بل في إنسانيته، وفي وقوفه مع الحق.
وفي ختام هذه الوقفة مع الإمام الحسين، نقول: نعم، عاشوراء ليست مجرد ذكرى، بل بوصلة. وكربلاء ليست مجرد تراجيديا دامية، بل مشعل وعي، وسؤال أخلاقي لا يزال مطروحًا: ماذا نفعل حين يسود الباطل؟ وهل نملك شجاعة أن نكون أحرارًا في دنيانا كما أراد الحسين؟

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .

OSZAR »