العدد 6102
الأحد 29 يونيو 2025
banner
نموذج المحاكاة في الحروب: وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل
الأحد 29 يونيو 2025

وبعد ثلاثة عشر يومًا من اندلاع المواجهة العسكرية بين إيران وإسرائيل، وعندما بلغت ذروة عنفها باستخدام أسلحة متطورة وفتاكة، واقترابها من الانزلاق إلى صراع إقليمي شامل بعد تدخل الولايات المتحدة بشكل مباشر في لحظاتها الأخيرة، جاء الإعلان المفاجئ عن وقف إطلاق النار بين الطرفين.
لقد بدا هذا الإعلان، في توقيته ومضمونه، أقرب إلى تجسيدٍ عملي لما يُعرف في أدبيات الاستراتيجية العسكرية بـ “نموذج المحاكاة في الحروب”، وهو نهج لا يقع تمامًا في خانة القتال الحاسم، ولا في نطاق الحلول الدبلوماسية التقليدية، بل يتوسط بينهما، ويُستخدم كوسيلة لإدارة الحروب وإنهائها بصورة تحفظ ماء وجه الأطراف المتنازعة، وتُمهّد الطريق لعودة السياسة إلى طاولة القرار.
هذا النموذج يقوم، في جوهره، على محاكاة واقعية للحرب دون أن تبلغ مداها الكامل، أو يتمكن أي طرف فيها من تحقيق أهدافه، أو تؤدي إلى الانتصار التام. بل إن الطرفين، غالبًا، يكونان قد بلغا نقطة الإنهاك الاستراتيجي والعسكري، لكن دون القدرة على الاعتراف العلني بذلك. في مثل هذه الحالات، يتم اللجوء إلى “عرض القوة”، و “المواجهات المدارة”، حيث يختبر كل طرف قدرات الآخر، ويوجه رسائل متعددة الاتجاهات، من دون تجاوز خطوط الانفجار الشامل.
في أكتوبر 2019، وخلال مؤتمر التكنولوجيا العسكرية الذي عُقد في البحرين تحت عنوان “تطوير نماذج المحاكاة أولوية قصوى لمواجهة الصراعات المستقبلية”، ناقش خبراء عسكريون من مختلف الدول هذا المفهوم بدقة. وقد أجمع المشاركون في إحدى جلساته الرئيسة، المعنونة بـ “تطوير نماذج المحاكاة للحروب المستقبلية”، على أن هذه النماذج باتت من أهم الأدوات لرسم سيناريوهات النزاعات قبل وقوعها، بل وربما لحسمها من دون الدخول في مواجهات كارثية واسعة النطاق.
وما شهدته المنطقة أخيرا من صراع دموي بين إيران وإسرائيل يمكن قراءته في هذا الإطار. فمنذ البداية، بدت العديد من الخطوات والمواقف أشبه بـ “محاكاة” مدروسة ومحسوبة أكثر من كونها عمليات عسكرية تقليدية.
فقبل أكثر من خمس سنوات، في واقعة اغتيال اللواء في الحرس الثوري الإيراني وقائد فيلق القدس قاسم سليماني، بالقرب من مطار بغداد، مثلًا، التي مثّلت لحظة مفصلية في تاريخ المواجهة الأميركية - الإيرانية، جرى لاحقًا تنفيذ ردّ إيراني عبر إطلاق صواريخ على قاعدة “عين الأسد” الأميركية في العراق، لكن بعد إخلائها مسبقًا بشكل مبرمج، وفق ما أكده الرئيس ترامب لاحقًا، في إشارة واضحة إلى التنسيق غير المعلن أو التفاهم الضمني.
وفي العام الماضي، في مثال أكثر درامية، أقدمت إسرائيل على اغتيال إسماعيل هنية، زعيم حركة حماس، في قلب طهران، وهي خطوة هائلة من حيث دلالاتها السياسية والأمنية، باعتبار أن الضحية كان في ضيافة رسمية للدولة الإيرانية، لكن الرد الإيراني جاء أيضًا بطريقة مدروسة، عبر إطلاق صواريخ على إسرائيل في هجوم وُصف، في ذلك الوقت، بأنه الأكثر اتساعًا من حيث العدد، لكنه الأقل فاعلية من حيث الخسائر، وسط أنباء عن تنسيق أمني إسرائيلي - أميركي - دولي مكثف، واستعدادات مسبقة للتصدي للهجمات.
وفي الساعات التي سبقت إعلان وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، استخدمت الولايات المتحدة أحدث أسلحتها الهجومية في ضرب ثلاث منشآت نووية رئيسة في إيران، وهي نطنز وفوردو وأصفهان. ومع أن الهجوم بدا كأنه استهدف البنية النووية الحساسة في العمق الإيراني، فإن ما تسرّب من تقارير لاحقة يشير إلى أن هذه المواقع كانت قد أُخليت من المواد والمعدات الأكثر حساسية، الأمر الذي يعزز فرضية أن هناك علمًا مسبقًا أو اختراقًا استخباراتيًا شاملا جعل الضربة أكثر رمزية من كونها استراتيجية. وكان على الحكومة الإيرانية الرد على هذا الاعتداء بترتيب قصف صاروخي محدود على قاعدة “العديد” الأميركية في قطر بالشكل الذي تم استيعابه وإجهاضه بكل سهولة ودون إحداث أي أضرار جسيمة، وبعد إبلاغ الحكومة القطرية مسبقًا ومنها إلى حكومة الرئيس ترامب بنية الهجوم. وقد شكر الرئيس ترامب إيران “على إبلاغنا مبكرًا مما سمح بعدم وقوع خسائر في الأرواح أو إصابات…”.
إن ما شهدته المنطقة خلال المواجهة الأخيرة بين إيران وإسرائيل لم يكن مجرد جولة جديدة في صراع طويل الأمد، بل كان منعطفًا كاشفًا عن طبيعة الحروب الحديثة، حيث لم تعد المعارك تُخاض لتحقيق انتصار ميداني صرف، بل لأهداف أخرى، مثل: تثبيت توازنات، توجيه رسائل، أو حتى تصدير أزمات داخلية.
وفي ظل تعقيد المشهد الإقليمي الخليجي، وتداخل القوى المحلية والدولية، أصبح من شبه المستحيل أن تُخاض حرب تقليدية دون أن تنزلق إلى حرب شاملة مدمّرة، ولهذا باتت “الحرب المحاكية” - أو لنقل الحرب المدارة على الخيط الرفيع بين الحقيقة والوهم - هي الخيار المفضل، خصوصًا عندما تكون كلفة الحرب أعلى من طاقة الجميع على الاحتمال.
هذا النموذج الاستراتيجي لا يُستخدَم فقط لتجنب الخسائر الكبرى، بل أيضًا لتوفير مظلة تحرك سياسية داخلية لكل طرف. فإيران، التي تعاني ضغوطا اقتصادية خانقة، وتصدّعا داخليا متناميا، تحتاج إلى تأكيد روايتها بأنها “تقف في وجه العدو”، دون أن تتورط في حرب تُسقط ما تبقى من نظامها. وإسرائيل، التي تواجه تحديات أمنية متزايدة على جبهات متعددة، تحتاج هي الأخرى إلى استعراض القوة دون أن تتحمل تبعات الاجتياح أو تنزلق إلى هاوية الحرب الاستنزافية. أما الولايات المتحدة، خصوصا في عهد الرئيس ترامب، فهي تحاول أن تمسك بخيوط اللعبة وتعيد ضبط التوازن دون أن تغرق في المستنقع.
في هذا الإطار، لم يعد وقف إطلاق النار هو تتويج لانتصار حاسم أو هزيمة واضحة، بل هو في كثير من الأحيان تتويج لهدف خفي تحقق، أو فشل معلن جرى تغليفه بنجاح إعلامي. ولهذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه بعد كل حرب “محاكية” هو: من الذي ربح الحرب التي لم تقع؟
ربما نكون أمام مرحلة جديدة في مفهوم الحرب ذاته، مرحلة تلعب فيها الصورة، والتصريح، والمعلومة المسربة، والخرائط الذكية، الدور الذي كانت تلعبه المدافع والدبابات نفسه، وربما أكبر. وهنا يصبح لزامًا على دولنا ومجتمعاتنا العربية أن تطور من فهمها للأمن القومي، وأدواتها في قراءة الأزمات؛ لأن ما يجري على الأرض لم يعد يُقاس فقط بحجم الدمار، بل بنمط التفكير الاستراتيجي الذي يُدار من وراء الكواليس.
إن وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل، رغم ما سبقه من نار ودم، هو في حقيقته وقفة لتأكيد أن لعبة النار قد أصبحت أكثر تعقيدًا وخطورة، وأن الحروب القادمة قد لا تشبه ما تعلّمه العسكريون في الأكاديميات، ولا ما يتوقعه المتابعون من شاشات الأخبار.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية

OSZAR »