العدد 6086
الجمعة 13 يونيو 2025
خربشة ومغزى.. "مُتخَيْر لفظ... وقطوف دلالة لغوية"
الأحد 08 يونيو 2025

مُتخَيْر لفظ وقطوف دلالة لغوية، هو لَمْحَة عنوان من معين لغة القرآن العربية ذات خزين وافر مصدر فعل واشتقاق، ومن تشبع بها تذوق لا يبرح عنها، ولا أخال معجم لسان العرب لابن منظور، إلا كنز تتلألأ فيه جواهر كلمات تقارب أربعة ملايين ونصف. مفردات العربية فيها كثرة وتفانين قد لا تُحصى، وتضاهي سعة أي لغة منطوقه حيّة. هي لغة بيان ووجدان، وحرفها به أفانين خط وارتسام.

اللغة العربية تنسّكب دلالة مفردتها، حسب نحوها وصرفها ومجازها وجِناسها، ونطقها فيه ذوق وإيقاع تتحرك بحس زمني يُلّهم المُتكلمين ويجذب المُتلقين. المستشرق الفرنسي ماسينيون المُتوُفّي عام 1962م قال؛ أن باستطاعة العرب أن يفاخروا غيرهم من الأمم بما في أيديهم من جوامع الكلم التي تحمل من سمو الفكر وأمارات الفتوة والمروءة ما لا مثيل له. وكذلك وليم مرسيه المُتوُفّي عام 1956م وصف؛ أن العبارة العربية كالعود إذا نقرت على أحد أوتاره رنت لديك جميع الأوتار وخفقت، ثم تحرك اللغة في أعماق النفس من وراء حدود المعنى المباشر موكبا من العواطف والصور. وبالمثل "كازانوفا " المُتوُفّي 1926م في فقه اللغة العربية له وفير كلام، ويُعتبر الرائد الأول الذي وضع أساس الدراسات العربية في الجامعات الأوربية. ومثلهم كان سابق زمنا الألماني "رايسكة" المُتوُفّي عام 1774م والذي سمى نفسه "شهيد الأدب العربي"، بعد أن أوقف حياته كلها على دراسة اللغة العربية والحضارة الإسلامية. وهذا الاهتمام عند الألمان امتد إلى وقتنا الحاضر. 

التالي قطوف مفردات، لها تنوع دلالات، تتذوق منها فصَاحة وصبَاحة؛
. قدَح أو تعريفه القَدَحُ، وهو من الْآنِية للشُّربِ، وعند العرب ما يروي الرَّجُلين والجمع أَقْدَاحٌ، ومُتَّخِذُها قَدَّاحٌ وصناعته الْقِدَاحَةُ. وقَدَحَ بِالزِّنْدِ يقْدَحُ قدحا وَاقْتَدَحَ أي رام الإيراء به وهو الاحتكاك به، والمِقْدَحُ والمِقْدَاحُ والمِقْدَحَةُ والقَدَّاحُ كُلُّهُ يفيد معنى الحَدِيدَةُ الَّتي يُقْدَحُ بهَا، وكذلك القَدَّاحُ والقَدَّاحَةُ تشمل الحَجَرُ الذي يُقْدَحُ به النَّارُ، وَقَدَحْتُ النَّار بالْقَدَّاحُ معناه الحَجَرُ الذي يُورَى منه النَّارُ، لذا يُقال للَّذي يُضرب فتخرج منه النَّارُ قَدَّاحَةٌ.

وإذا قيل قَدَحْتُ في نَسَبِهِ إذا طعنت، وَمِنْهُ التشبيه في حالة اللمز حينما يُقال له ما هو الا كشَجرٍ مُتقادِحٍ أَي رِخْوِ العيدان، ضعيفها إِذَا حركته الرِّيحُ حَكَّ بَعْضُهُ بعضاً فالتهب نارا. وعبارة قَدَحَ الشَّيْءُ فِي صَدْرِي تعني قْدَحُ الشَّكُّ فِي قلبي بأَوَّلِ عارضةٍ من شُبْهةٍ. وقول اقْتَدَحَ الأمر معناه دَبَّرَهُ ونظر فيه. 

ولمزيد دلالات أن الْقَدْحُ وَالْقَادِحُ تعني أُكَالٌ يَقَعُ فِي الشَّجرِ والأسنان، وَالْقَادِحُ هو العَفِنُ وكلاهما صفةٌ غالبةٌ، وَالْقَادِحَةُ الدُّودَةُ التي تأكل السِّنَّ وَالشَّجَرَ حتى تقول قد أسرعت فِي أَسْنَانِهِ الْقَوَادِحُ، ومنها يُقَالُ وقع الْقَادِحُ فِي خَشَبَةِ بيته يعني الآكِلَ.

ومن الأقوال قَدَحَ فِي سَاقِ أخيه أي غَشَّهُ وعمل في شيء يكرهه، وقول فلانٌ يَفُتُّ فِي عَضُدِ فُلانٍ، وَالْعَضُدُ هنا أَهْلُ بَيْتِهِ أما سَاقُهُ تعني نفسهُ. وَالْقَدِيحُ مَا يبقى فِي أسفلِ القِدْرِ فِيُغرفُ بِجهدٍ ويلحق بذلك اقْتُدَاحُ المرق أي غَرْفُهُ.
ومن المعاني الوافرة قدح قداحا هو وصف للخيل التي توري النار بحوافرها إذا سارت في الحجارة، يعني أنها كالقادحات قدحا يقدحن بحوافرهن، ومجازها هي الخيل تهيج الحرب ونار العداوة بين فرسانها. 

. السِّبْطُ واحد الأسّباط وهو ولد الولد. وقيل السّبط ولد الأبن والأبنة. وقد يكون خاص أولاد الأولاد، أو أولاد البنات. والسّبط له معنى آخر قبيلة من العرب الذين يرجعون إلى أب واحد.
وفي دلالة أخرى؛ سبطت الناقة وهي مُسّبط أي ألقت ولدها لغير تمام ليمتد على الأرض ساقطا حين يقع، وبالمثل قول؛ أسّبط على الأرض إذا وقع عليها ممتدا من ضرب أو مرض. وأسّبط الرجل إسّباطا إذا انبسط على وجه الأرض وأمتد من الضرب.

. بيت بقصيده للمتنبي؛
"وبَسَمْنَ عن بَرَدٍ خشيتُ أذيبهُ
من حَرِّ أنفاسي فكنتُ الذَّائِبَا"
المتنبي له مثيلات من الأبيات صعب تُبارى، والبيت المذكور هو من قصيدة أربعينية، فيها دهش وصف، وتراقص مفردات أستلت من الاشتقاق تصاريف عجيبة، فعل وفاعل وصفة وحال ومفعول، ورديف وتورية ومجاز ومتقدم خبر على مبتدأ، وتستر فاعل مبني على مجهول. هذا البيت فيه سُحُب تتلبّد من مجاز ونسيب انطوت على دلالة فيها تبسم أسنان بياضها كالبرد صفاء ونقاوة هو يخشى ذوبانه بلفح نفَسَه المتوالي وهو يذوب قبل البَرَد الرضوب.

. الهفوف جاء في دلالتها هي ريح هَفّافة وهفهافة أي سريعة المَرّ، وهَفَّت تَهِفُّ هَفّا وهَفِيفا إذا سمعتَ صوتَ هُبوبها، والريح الهفّافة الساكنة الطيبة. ولهذا أسم الهفوف من مشتق لغوي بمعنى المكان ذي الهواء الطيب السريع المرور، والهفوف تقع بين سنامتين صخريتين إحداهما من الغرب، والأخرى من الشرق والشمال الشرقي، بمثابة مورد وقلمة يمر الهواء منها يلطف حرارة الجو، ولهذا هي جاذبة للسكنى. 

. الشوق والاشتياق سُئل اللغويُّ أبو علي الدقاق ما يُفَرِّق بينهما فقال؛ الشوقُ يَسْكن باللِّقاء والرؤيةِ، والاشتياق لا يزول باللِّقاء. وفي هذا المعنى أورد القُشيري بيت أبي نواس حين قال؛
ما يَرجِعُ الطَّرفُ عَنها حينَ أُبصِرُها
حَتّى يَعودَ إِلَيها الطَّرفُ مُشتاقَا
ولهذا الشوق يَسْكُنُ باللقاء، والاشتياق لا يسكن به، بل يزيد ويتضاعف. ومنهم من يقول الشوق يسكن باللقاء، والاشتياق يهيج بالالتقاء. وقيل لا يعرف الاشتياق إلا العشاق. ومن سَكَن باللِّقاء هو عاشق، وسلطانه هو عشقه. لذلك العشاق يَتَألمّون بالفراق ويطلبون لذَّة التَّلاق فَهُم في حُظوظ نُفوسهم يَسْعُون، فلا منَّةٌ لمُحب على مَحبوبه، فإنَّه مع مَطلوبه، ولا عنده محبوب ومرغوب سوى ما تَقَر به عَينه ويَبتهجُ.
هكذا الشوق يزول برؤية الحبيب، وإذا ورد سكن، والاشتياق لا يزول أبدا، والروح تطلب الزيادة في وصله والقرب منه، وهي مثل هبوب القلب إلى غائب يذرف دمع من شدة الشوق. يقول القُشيري؛ الشوق اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق. وإذا لقي المحبوب إنما يكون ذلك سرورا به، من شدة الشوق.

المِكثار تقول العرب فيه هو حاطب ليل، وهذا وصف للرجل كثير الكلام كحال من يجمع الحطب بالليل، وقد لا يأمن أن يجد في الحطب أفعى أو عقرب يكون فيها حتفه مثل الكلام كلمة فيه يكون هلاكه. 

. النَّمِيمة تسميها العرب الحطب الرطب حطب لأنه يشعل النار بين الناس، ورطب لأن اللسان ينقلها ولهذا يقولوا حطب فلان بفلان أي سعى ووشى به، وفي الآية "حمالة الحطب" وصف لأن أم جميل زوج أبي لهب تحمل النَّميمة. 

. اَهذْر تُقال للذي منطقه ثرثرة وجلبة حتى يُوصف أنه أفترش لسانه إذا تكلم بما شاء ومن أكثر أهَجْر، ومنها مرادف الهراء أي ذو المنطق الفاسد، وفي المديح لعكسها لها بشرٌ مثل الحريرِ ومنطقٌ رخيمُ الحواشي، لا هُراءٌ ولا نزْرُ.

. حْلَى أحلى وإحلاء وحلاه تصاريف تتعدد، وإذا قيل حلاه وجده حلوا أو أحلاه بمعنى صيّره حلوا، أما أحلى يُحلي وأَحْلِ إحلاءً فهو مُحْلٍ والمفعول مُحْلًى، وأحلى فلانٌ اي جاء بالشَّيء الحلو وحلا هي فعل، ومنها لفظ يَحلُو واحْلُ وحلاوةً وحُلْو.
أما حلا الشَّيءُ أي طعم السُّكَّر كحلا العصيرُ، والمبالغة تُقال أحلى من العَسَل أي حلوٌ جدّا، لذا تكتب أحلى لا احلا، وإذا أراد القائل تفعيلة أفعل بمعنى أحلي مساء اي أحلاه. أما إذا كتبت فعلا مثل أحلأ فلها تصاريف إحلاء وأحلأه بمعنى كحله. 

. قبوص هو فرس قوي نشيط إذا عدا لا يصيب الأرض إلا أطراف سنابكه من الأمام، والقَبْصُ هو التناوُلُ بالأَصابع بأَطْرافِها وهي ما اعتاده العرب حتى يقولوا قَبَصَ يَقْبِصُ قَبْصاً أي تناوَلَ بأَطراف الأَصابع. ولها أصل في أحد القراءات للمصحف “فَقَبصْت ُقبْصًة من َأَثر الرسول" أي فَقَبضْت َقبْضًة. قال الفراء وهو أحد القرّاء المُعتبرين؛ الَقبْضُة بالكف، والَقبْصَة بَأطراف الأصابع، والُقبَْصة والَقبْصُة اسم ما تناولته بعينه، والَقِبيصُة ما تناَولْته بَأطراف َأصابعك، والَقبْصُة من الطعام ما حَمَلتْ َآّفاكَ وفي الحديث "أنه َدَعا بَتمْر فجعل ِبلالٌ يجيُء به ُقَبصاً"، وهي جمع ُقبْصٍة، وهي ما قُِبصآ اي الُغرْفِة لما ُغِرف وفي حديث مجاهد يقول تعالى “وآتوا َحَّقه يوَم حصاِده يعني الُقَبَص التي تُعَْطى الفقراَء عند الحصاد. والَقِبيُص والَقِبيصُة التراُب المجموع، وِقبُْص النمِل وَقبُْصهُ مجَْتمُعه أي مكانه، وهذا القبْص هو مجَْتَمُع النمل الكبير الكثير. يُقال إنهم لفي قبص الحصى إي في آثرتها لا يُستطاع عده من آثرته، والَقبص العَدد الكثير وفي الصحاح العدُد الكثير من الناس، وفي الحديث فتخرج عليهم قوابص َأي طوائف وجماعات واحَدُتها قاِبصةٌ. والَقَبُص ارتفاعٌ في الرأْس وعَظمٌ، والَقبْصُة الجرادُة الكبيرة.

هكذا مفردات اللغة العربية تغمس مُتذوقها، ولا يُشبع منها، وهي باب واسع مفتوح للمهتمين.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية

OSZAR »