العدد 6099
الخميس 26 يونيو 2025
banner
“ترياك” الانتصار وتغير وجوه الهزيمة
الخميس 26 يونيو 2025

لا أفرح بالحروب؛ لأن أسوأ ما فيها ذبح عروس في يوم زفاف، وسقوط طفل من أرجوحة إلى قبر اسمه العدم.
أعلم أني مثل من يضرب بـ “مطرقة على زجاج مقدس”، كما يقول نيتشه، لكن كل ذلك لإنقاذ الناس من “الجحيم المقدس”.
أنا كذاك المثقف الذي يحمل قلمه لا كزينة في جيب معطف، بل كسكين يذبح بها أصنام الوهم، ويفتح شقا في جدار الليل كي تمر شمس صغيرة.
نعم، أنا كذاك المثقف الذي قرر أن يعيش بلا أسياد، والإنسان الذي يبحث عن الله خارج القوالب، أو ما يسميه عالم النفس الكبير إريك فروم “الهروب من الصنم إلى الإله الحقيقي”.
خرجت إيران من الحرب كدب جريح، وخرجت إسرائيل كثعلب بعين واحدة. كلاهما تقولان: انتصرنا. وأنا لا أحب توزيع أوسمة الانتصار كما توزع الآلهة الإغريقية أساطير النصر على المقاتلين؛ لأني مؤمن أن الانتصار الحقيقي هو الانتصار للإنسان والقيم والحضارة، لا للتطرف الديني، أو لون الجلد، أو ادعاء احتكار الحقيقة، أو قدسية العرق، أو برونزية الدين.
“في الشرق الأوسط، لا أحد ينتصر فعلا. بل فقط: تتغير وجوه الهزيمة”. و “الشرقي لا يرضى بدور غير أدوار البطولة”، كما هو تعبير نزار قباني، وكما وصف المفكر أدونيس، الوطن العربي بـ “مسلخ لا يشبِع الآلهة”.
والمطلوب ليس انتصار طرف على آخر، بل انتصار الإنسان على سرديات الخراب، على تديين العنف، وعلى تحويل الكراهية إلى نبوءة مقدسة. 
ما لا نريده هو تقديس الموت. ونرفض تشويه الذاكرة البصرية بهذه الأعلام والصور والشعارات الزائفة من انتصارات وهمية تطحن لحوم الشباب في فرامة كبيرة اسمها الشرق الأوسط.
يقول الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو: “السعادة هي التمرد الهادئ على عبثية العالم”. إنه ما يسمى بالإنهاك الوجودي. مقبرة مزخرفة بالخطب على منبر يعيد صناعة الموت المقدس.
لا أحب خطب السياسيين، ولا تفردهم على الشاشات، فحين تجد السياسيين يتفردون بالشاشات هم ورجال الدين “السياسيون”، فاعلم أن الثقافة محاصرة في الصحراء بلا قطرة ماء؛ لذلك، طيلة حرب إسرائيل وإيران، كنت منشغلا بقراءة أقوال الفلاسفة عن قصة الحروب مع الإنسان.
أنا صرت أخاف من مفهوم “النصر” عند المسلم والعربي أكثر من إغواء الشيطان. لقد أصبح أشبه بفخ حربي، أو شِراك سياسي، أو شباك غيبي.
أصبح أشبه بـ “ترياق” يوزع بعد كل معركة لإعادة إنتاج ذات الهزائم. الجماهير أدمنت “حشيش النصر”، والكل يشمه كما يتعاطى المكسيكيون نبتة الماريغوانا.
لا علي من إسرائيل، فلا تهمني، لأن إسرائيل - خصوصا بعد غزة - أصابت الإنسانية بمقتل، وخنجرها ما زال يتصبب وجعا بداخل كل مثقف إنساني يسأل عن ضمير.
يهمني أن تفهم إيران الدرس، وأتمنى على قادة النظام أن يحولوا إيران إلى علمانية، وتصبح ليبرالية لتخدم شعبها والمنطقة، وتجعل المسجد للعبادة، خصوصا بعد كل ما حدث.
أعلم أني بهذه الدعوة أشبه بميثولوجي طوباوي غارق في الحلم، لكن أتمنى ولو طيف حلم.
أقول لإيران: لا تكرروا خطأ الرئيس جمال عبد الناصر في وهم الانتصار وتوزيع مخدراته القومية على الجماهير، ولا قراءة صدام حسين في مفهوم النصر، والصحاف مرددا “سيسقط الأميركيون على أسوار بغداد”.
النصر الحقيقي هو في رفاهية الشعب الإيراني، وفي كسر صنمية مفهوم مقارعة العالم، وتمثيل دور “المنقذ”، و “بطل الضرورة”، و “الأبوة الرمزية” في التضخم الأنوي النرجسي من ثقافة الارتطام بجدار العالم وتوريط الجماهير بالموت الجماعي في مقابر عبثية.
يجب أن تنتبه الجماهير إلى أن توابيت الموت ليست خيارا، وإن صبغت الأكفان بماء الذهب، وإنما الخيار هو تقديس الحياة، والجمال، والمعرفة، والحضارة.
يقول كلود ليفي-شتراوس، الأب المؤسس للأنثروبولوجيا البنيوية: “الشعوب التي تبقى هي التي تتقن الانسجام مع التغير، لا التي تقاومه حتى الفناء”.
لا توزعوا على الشباب: “أنا الشهيد التالي”، بل: “أنا الطبيب التالي”، “أنا محب الحياة التالي”. ما هو أفضل من الشهادة في عبثية الحروب هو شهادة العلم، وقداسة المعرفة، وقرابين القداس لأجل التطور.
لماذا تقدم أبناءك وجبات بشرية لوحش اسمه العبث، ولغول اسمه السياسة، ولـ “كودزيلا” اسمه الحروب؟
بل ردد: ليس في التراجع مهانة إن كان التقدم مقبرة، وليس في الانحناء أمام العاصفة خيانة إن كان الوقوف طعنة. “أنا لم أخسر، بل اخترت البقاء”.
أما في الخرافة.. فالنصر وهم يباع على منابر الغضب.
السياسي الذكي من يعقد تحالفا مع أمريكا، ومع دول أوروبا، وليس من يرفع شعار “الموت لأمريكا”.
أتمنى من إيران أن تفهم أن مفهوم “تصدير الثورة” وتهديد الجيران وتهييج الناس على حكوماتهم منذ 1979 كان خطأ قاتلا.
فاليوم، سقط جنوب لبنان كتابوت في حفرة العدم، وهرب بشار، وسوريا لا زالت ترمم وجهها ومقابرها لعلها تشبه نفسها، دون بعثية ودون أيديولوجية دينية.
اليوم، ضربت مفاعلاتكم النووية، وصفيت قيادات الصف الأول والثاني من قياداتكم، مع هول حجم الانكشاف وفضيحة الاختراق مئات المليارات ذابت كذوبان قطعة سكر في ماء. اتركوا الأناشيد والتاريخ.
كونوا مثل اليابان، فبعد أن دمرت هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية، أعلنت اليابان الاستسلام غير المشروط للحلفاء.
أنا لا أقول: استسلموا لأمريكا، أقول: تحالفوا معها ومع الغرب ومع الخليج، ستتحول إيران كاليابان، فقداسة التحول الياباني تمثلت في استبدال النزعة العسكرية بنموذج سلمي تنموي، وتمت إعادة هيكلة الدولة على أسس ديمقراطية وتعليمية وصناعية.
النتيجة: تحولت اليابان في غضون عقود إلى واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم، وصدرت نموذجا حضاريا متطورا في التكنولوجيا والتعليم والثقافة.

تعلموا من كوريا الجنوبية وما حدث بعد الحرب الكارثية بين الشمال والجنوب، خرجت كوريا الجنوبية مدمرة، وفقرها مدقع. وقداسة التحول تمثلت في التركيز على التصنيع.


خذوا درسا من ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية (1945)، بعد انهيار النازية، قسمت ألمانيا، وخضعت أجزاء منها للاحتلال من الحلفاء. التحول: قبِل الألمان بالهزيمة، وأعادوا بناء الدولة الغربية (ألمانيا الغربية حينها) على أساس ديمقراطي وتحديثي.

النتيجة: أصبحت ألمانيا الغربية رمزا للنهوض السريع والاقتصاد المزدهر في أوروبا، ولاحقا توحدت البلاد.

فلو سلمنا أنكم “انتصرتم”، فاستغلوه بإلغاء الثورية، وفكروا في إيقاف الأيديولوجية الثورية واستبدالها بالحضارية.

وأقول: ماذا لو أن كل رئيس إيراني اعتمد سياسة “لي كوان نيو” باني نهضة سنغافورة؟

لي كوان نيو لم يصرخ “لن نركع”، بل همس: “لن نغرق”، تخطى العاصفة، فصعد بشعبه إلى قمة القرن.


لم يطلق طلقة، بل أطلق نهضة.

اليابان، لم تقاتل بعد الهزيمة.. بل تعلمت أن تصنع الرقائق بدل الرصاص.
ألمانيا، لم ترفع رأسها صخبا.. بل انحنت للعقل، فارتفعت للأعالي.

هؤلاء لم يذلوا.. بل عرفوا عزة الكرامة الواعية.

ليس في التراجع مهانة إن كان التقدم مقبرة.
وليس في الانحناء خيانة إن كان الوقوف طعنة.

“أنا لم أخسر، بل اخترت البقاء”.

أما في الخرافة.. فالنصر وهم يباع على منابر الغضب.

هذا نصر لما يسمى في علم النفس بـ “الاكتئاب المبتسم”، عندما يكون “البطل” كقبر مذهب في ساحة عامة، يتجمهر الناس حوله ظنا أن فيه حياة، وما هو إلا تجميل لموت جماعي.

أقول: الدين ليس سجنا، الوطن ليس محرقة، والإنسان لا يقاس بطول السجود، بل بعمق الوعي.

علموا أبناءكم أن الشرف لا يختصر في صورة مقاتل، بل ربما في فلاح يزرع حقلا بعد أن انكسر السيف.


علموهم أن العزة لا تعني أن نموت واقفين.. بل أن نعيش واقفين بعد أن تركنا العاصفة تمضي بوعي.

فلنعلم أبناءنا أن الشجاعة لا تعني الصراخ في وجه المستحيل، بل تعني معرفة متى نصمت، متى ننسحب، ومتى نتأقلم لننجو.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية

OSZAR »