العدد 6106
الخميس 03 يوليو 2025
banner
هل بدأ زمن الانحدار للمواقع الإخبارية العملاقة؟
الخميس 03 يوليو 2025

لم تكن الضربة التي تلقتها كبريات المنصات الإخبارية في مايو 2025 ضربة رقمية عابرة، بل أشبه بـ “زلزال هادئ” يعيد رسم خريطة الإعلام على الإنترنت، بهدوء قاتل، لكنه فعّال. فقد كشفت بيانات “Similarweb” عن أن أعمدة الصحافة الرقمية الأميركية بدأت تهتز تحت وطأة تراجع جماهيري واسع، لا يرحم.
من “CNN” إلى “Fox News”، ومن “New York Post” إلى “Daily Mail”، العناوين البراقة باتت تخسر جمهورها بوتيرة لافتة. وفي المقابل، منصات لم تكن تُذكر إلا على الهامش قبل سنوات، مثل “Men’s Journal” و “Substack”، تتصدر اليوم عناوين الصعود.
هبوط حاد في سماء الأخبار
دعونا نبدأ من الأرقام، فهي لا تجامل.
“CNN” فقدت نحو 28 % من زياراتها، متراجعة إلى ما دون 312 مليون زيارة، بينما انخفضت نسبة زيارات “Fox News” بنحو 24 %. “New York Post” خسرت أكثر من ربع جمهورها، و “Daily Mail” شهدت نزيفًا بنسبة 32 % في السوق الأميركية وحدها.
لكن ليس الجميع في مركب الغرق.
“Men’s Journal”، الذي يركز على نمط الحياة واللياقة، تضاعفت زياراته أربع مرات في عام، فيما سجلت “Substack” قفزة بـ 42.5 % لتبلغ 67.7 مليون زيارة. كذلك أحرز كل من “New York Magazine” و “Seattle Times” تقدما مشهودا. كيف نجح هؤلاء في الصعود، بينما العملاق يتقهقر؟
ثلاثية التحول: جمهور مختلف، أدوات مختلفة، ونماذج مختلفة

1. وداعًا للمحتوى “العامي”
ما عادت الأخبار العامة تكفي. القارئ في 2025 بات يطلب ما يُشبهه، لا ما يُشبه الجميع. يريد موضوعًا يتقاطع مع حياته، شغفه، أولوياته. لذلك، أصبحت المنصات التي تقدم محتوى متخصصًا، كلياقة الرجال في “Men’s Journal” أو النشرات المفصلة في “Substack” أكثر جذبًا. الجمهور لم يعُد يمرّ سريعًا، بل يبحث عن مادة يتوقف عندها، ويعود إليها.

2. الذكاء الاصطناعي: الحارس الجديد على بوابات المحتوى
لنعد خطوة إلى الخلف. حين يُسأل “Google” اليوم عن شيء، فإن “Google” لا يجيبك برابط، بل يلخص ويختصر ويمنحك زبدة المحتوى داخل نتائج البحث نفسها، عبر ميزة تُعرف باسم “AI Overviews”. هذا التطور جعل كثيرًا من المستخدمين لا يكلفون أنفسهم عناء زيارة المواقع. النتيجة؟ انخفاض طبيعي في الزيارات.
في المقابل، بعض المواقع حصدت نتائج عكسية. منصات مثل “Reuters” و “Business Insider” شهدت زيادات هائلة في الإحالة من أدوات الذكاء الاصطناعي مثل “ChatGPT”، الذي ارتفعت إحالاته نحوهم بـ 25 ضعفًا في عام واحد. الرسالة واضحة: من ينتج محتوى موثوقًا، ما زال له مكان. 

3. لا وسطاء بينك وبين القارئ

في عصر تتراجع فيه قوة “الوسيط”، سواء كان محرك بحث أو منصة تواصل اجتماعي، يتقدم نموذج العلاقة المباشرة بين الكاتب والقارئ. “Substack” خير مثال: الكاتب يكتب، والقارئ يختار الاشتراك، ويصله المحتوى في بريده دون حاجة لـ “ألغوريثم” يقرر ما يجب أن يراه. هذه العلاقة الجديدة تعني جمهورًا أوفى، وعوائد أكثر استقرارًا.

بين الصحافي والآلة: من يكتب المستقبل؟

دراسات حديثة، بينها ما صدر عن مركز “تريندز”، تطرح أسئلة مقلقة حول “من يصوغ الوعي الآن؟”. فالتقارير الآلية المدعومة بالذكاء الاصطناعي تتسلل إلى غرف الأخبار، وبعضها بات يُنشر من دون تدخل بشري. الشباب تحت سن 25 عامًا صاروا يلجؤون إلى روبوتات المحادثة للحصول على الأخبار، بنسبة تقترب من 15 %، بحسب الدراسات.

لكن رغم ذلك، ما يزال كثيرون يترددون في الوثوق الكامل بالمحتوى المولّد آليًا، ويبحثون عن “لمسة بشرية”، عن حسّ تحريري، وعن عقل ناقد، لا مجرد ملخص ذكي.

مَن يبقى في اللعبة؟

الدرس القاسي واضح: من لا يتجدد، يذبل. المواقع التي تعيش على ماضيها، أو تلك التي تكتفي بعناوين جذابة من دون محتوى حقيقي، ستجد نفسها خارج سباق التأثير.

المستقبل لمن يفهم جمهوره، وينتج له ما يشبهه، ويبني علاقة متينة معه. قد تكون “Substack” اليوم مجرد منصة صغيرة مقارنة بـ “CNN”، لكنها تملك ما هو أهم: ثقة قارئ يدفع، لا فقط يتصفح.

ويبقى السؤال الحاد معلقًا: هل تستفيق المواقع الكبرى وتعيد تشكيل نفسها؟ أم أن الزمن بات لغيرها؟
في معركة الإعلام الحديثة، يبدو أن الحجم وحده لم يعد كافيًا.. بل العمق هو ما يحسم النزال.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .

OSZAR »