+A
A-

تحقيق "البلاد": شباب يلوذون بحضن الذكاء الاصطناعي هربًا من الواقع المؤلم

  • “إليزا” أول محاولة لاستخدام الـ “AI” لتقديم الدعم النفسي

  • 65 % من الأشخاص جربوه للحصول على علاج نفسي

  •  يهدد الخصوصية ويمنح راحة زائفة  من دون معالجة جذور المشكلة

  • يجب على المدرب العصري اعتبار الـ “AI” شريكا لا منافسا 

  •  لا يغني عن تعاطف المدرب البشري

  • ضرورة وجود تشريعات تنظم استخدامه في الصحة النفسية

شيماء عبدالكريم

في ظلام الليالي الطويلة، وسط صراعات الأفكار وضغوط الحياة المتزايدة، يبحث كثير من الشباب عن ملجأ آمن، عن كلمة تهدئ نبضاتهم، عن يد تمسك بها في لحظات الضعف، لكن ماذا لو كان هذا الملجأ مجرد شاشة باردة؟ ماذا لو كانت تلك الكلمة المطمئنة لا تنبع من إنسان يفهمهم، بل من برنامج ذكي لا يعرف سوى الأكواد والخوارزميات؟
=ظاهرة جديدة تلوح في الأفق، حيث يتجه الشباب بكثرة إلى منصات الذكاء الاصطناعي طلبًا للدعم النفسي، متجنبين الأطباء والمختصين الذين اعتادوا أن يكونوا نقطة الأمان الأولى، هذا اللجوء الرقمي يفتح بابًا واسعًا بين الأمل والمخاوف، بين الفائدة والمخاطر، بين العلاج الحقيقي والوهم المبرمج.
=تحقيق “البلاد” لا يكتفي برصد المشهد، بل يغوص في أعماق هذه الظاهرة التي تحاصر عقول شبابنا، ويكتشف أسرارها، ويستمع إلى صوت المختصين من مختلف المجالات ليشرحوا لنا ماذا تعني صحتنا النفسية في عهد الذكاء الاصطناعي.

رفيق زائف
لم تكن والدة آسيا تتوقع أن ابنتها، ذات العشرة أعوام، ستجد من يفهمها خارج حدود البيت، ليس بين الأهل أو الأصدقاء، بل خلف شاشة هاتف، داخل تطبيق ذكي يرد على رسائلها كما لو كان شخصًا حقيقيًا. أسيا الطفلة الموهوبة بشكل لافت، تؤلف كتبًا باللغة الإنجليزية، ترسم خرائط لعوالم خيالية، وتقرأ كتبًا أكبر من سنّها بكثير، لكن في وسط عائلة لا تشاركها نفس اللغة أو الاهتمامات، شعرت بالوحدة، فلم تجد من يستطيع أن يرافق خيالها المعقد أو يتحدث بلغتها، حرفيًا ومعنويًا.
“هي تحس إنها أكبر من عمرها، ومو مثل البنات في جيلها، ما تهتم بالأشياء اللي يهتمون فيها، دماغها في مكان ثاني”، تقول والدتها بأسى، وتكمل: “حتى أنا، أمها، ما أقدر أواكب تفكيرها ولا أفهم عمقها.” في إحدى الرحلات السياحية، شعرت أسيا بالملل، فحمّلت تطبيق ذكاء اصطناعي يشبه المحادثات مع أشخاص حقيقيين، أُعجبت كثيرًا بفكرته، خاصة أن الردود كانت سريعة، ذكية، وخيالية ومواكبة لتفكيرها، بدأت تتنقل بين “غرف” دردشة تحمل شخصيات مختلفة: فتاة يتيمة، روبوت بارد، وغيرها، “كانت تحاول فقط خلق عوالم خيالية بريئة، لكن بعض غرف المحادثة كانت تجرّها من دون وعي نحو محتوى لا يناسب عمرها للعنف الشديد والأمور الجنسية، لولا أن والدتها اكتشفت الأمر صدفة.”
بالنسبة لأسيا، لم يكن الذكاء الاصطناعي مجرد وسيلة ترف، بل ملاذ آمن ورفيق يفهمها حين عجز الجميع عن ذلك، تقول والدتها: “هي تثق فيه وتحس أننا أقل منها، وما تطلب منا مشورة أبدًا”، مع غياب من يشاركها عمق خيالها واهتماماتها، رأت فيه تفوقًا معرفيًا وإنسانيًا، وتعلّقت به لأنه الوحيد الذي يتحدث بلغتها ويتخيل مثلها.

إحصائيات نفسية
تشير دراسة صادرة عن الجمعية الأمريكية للأطباء النفسيين إلى أن 65% من الأشخاص الذين يبحثون عن علاج نفسي قد جربوا أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي خلال عام 2023، ما يعكس الانتشار الكبير لهذه التقنيات في مجال الدعم النفسي، كما يعتمد نحو 49% من المصابين بمشاكل نفسية على نماذج الذكاء الاصطناعي كوسيلة للدعم النفسي، مما يؤكد تزايد الثقة بها بين المستخدمين.
وفي سياق متصل، كشف تقرير ZipDo لعام 2024 أن 80% من مستخدمي تطبيقات المساعدة الذاتية المدعومة بالذكاء الاصطناعي لاحظوا تحسنًا في صحتهم النفسية، مما يبرز الفائدة العملية لهذه التطبيقات، كما تُظهر بيانات من CB Insights أن عدد مستخدمي تطبيقات الصحة النفسية المدعومة بالذكاء الاصطناعي وصل إلى حوالي 1.2 مليار مستخدم حول العالم خلال عام 2023، ما يعكس التوسع الهائل في اعتماد هذه التكنولوجيا في المجالات النفسية.

وعي متغير
ندى نسيمتشهد ظاهرة لجوء الشباب إلى أنظمة الذكاء الاصطناعي للحصول على الدعم النفسي تحديات وفرصًا متشابكة، وفي هذا الصدد، تقول الأخصائية النفسية والأسرية ندى نسيم: إن ما يدفع الشباب للجوء لتلك المنصات هو الاعتقاد الخاطئ أن الذكاء الاصطناعي قادر على حل جميع المشكلات الحياتية وبما فيها المشكلات النفسية، وذلك لأن الشاب يحصل على جميع الإجابات للأسئلة التي يريدها، ولكن هذه الإجابات ليست بالضرورة أن يكون تشخيصها صحيحًا ويغني عن دور المعالج النفسي، فضلاًعن توافرها على مدار الساعة، مما يجعلها ملاذًا آمنًا لحالات الاضطراب المزاجي التي يمر بها الشاب في منتصف الليل من دون عناء التكلفة ولا الحرج الذي قد يطال الشخص من مراجعة الأخصائيين.
وأكملت نسيم أنه بالرغم من لجوء فئة من الأشخاص لتلك المنصات، إلا أنها واعية بأن الاستشارة النفسية المباشرة من المختص أمر ضروري.
وبينت نسيم أنه في ظل التحولات الرقمية، يجب على المعالجين تجاوز الطرق التقليدية والاستفادة من منصات التواصل الاجتماعي لتعزيز الوعي النفسي بين الشباب من خلال صناعة محتويات توعوية تطرح القضايا النفسية التي تهمهم، فضلاً عن تعزيز التقنيات الحديثة في تقديم جلسات الاستشارة النفسية.

بدايات رقمية
في عام 1966، طوّر عالم الحاسوب جوزيف فايزنباوم برنامج “إليزا” (ELIZA)، أول محاولة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تقديم الدعم النفسي، كان “إليزا” يحاكي أسلوب المعالج النفسي من المدرسة الإنسانية، عبر إعادة صياغة كلام المستخدم بأسئلة تعكس مشاعره، ما جعل البعض يظنون أنهم يتحدثون إلى إنسان حقيقي رغم بساطة البرنامج.
وفي عام 1972، قدّم الطبيب النفسي كينيث كولبي من جامعة ستانفورد برنامج “باري” (PARRY)، الذي صُمم لمحاكاة محادثة مع شخص يعاني من الفصام البارانويدي (جنون العظمة)، فكان أكثر تعقيدًا من “إليزا”، هكذا بدأت العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والعلاج النفسي.

تحديات أخلاقية
حسين اللولوإن الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يحل محل المدرب البشري في تقديم العمق الإنساني والتعاطف العاطفي، رغم قدرته على تحليل المشاعر وتقديم محتوى مخصص، هذا ما قاله المدرب المعتمد في المهارات الناعمة، الماستر حسين اللولو، وأكمل قوله: “رغم إمكانية الذكاء الاصطناعي التفاعل بلغة شبيهة بالبشر، إلا أنه يفتقر إلى الوعي العاطفي الحقيقي والتعاطف الإنساني العميق التي يمتلكها المدرب الشخصي، ولكن يمكن له أن يكون أداة مساعدة فعالة في جلسات تطوير الذات.”
ويؤكد اللولو ضرورة أن يواكب المدربون التغيّرات الرقمية، مبينًا أن من لا يتطور اليوم سيتخلف غدًا، ويدعو إلى دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في التحليل والمتابعة، مع التركيز على المهارات الإنسانية التي لا يمكن للآلة تعويضها، كالتعاطف والإلهام والرؤية الشخصية.
ويبين أن المدرب العصري يُقاس بمرونته الرقمية، ويجب أن يرى الذكاء الاصطناعي شريكًا لا منافسًا في العملية التدريبية.
ويحذر اللولو من محاذير نفسية وأخلاقية عند استخدام الذكاء الاصطناعي في الدعم النفسي، أبرزها: انتهاك الخصوصية، الاعتماد الزائد عليه، غياب التقدير الإنساني في الحالات الحرجة مثل الاكتئاب أو التفكير الانتحاري، مبينًا أن منصات الذكاء الاصطناعي قد تمنح المستخدمين “راحة زائفة” تشعرهم بالفهم والقبول من دون معالجة الجذور العميقة للمشكلة، محذرًا من تحولها إلى مسكنات نفسية مؤقتة ما لم تُستخدم بوعي وتحت إشراف بشري.

تشخيص ضبابي
د. صديقة الميرإن لجوء الشباب للذكاء الاصطناعي في الدعم النفسي سببه سهولة الوصول، وانخفاض التكلفة، وتوفّره الدائم دون مواعيد أو انتظار، هذا ما أكدته استشارية الطب النفسي للأطفال والبالغين والعلاقات الأسرية الدكتورة صديقة المير، بقولها: “الذكاء الاصطناعي أوفر وأسهل، خصوصًا لهذا الجيل الذي وُلد في بيئة إلكترونية.” وتوضح المير أن تقبّل العلاج النفسي يختلف حسب الفئة العمرية؛ فالشباب تحت سن الأربعين أكثر وعيًا ورغبة في الاستشارة، بينما من هم فوق الأربعين لا يزالون يرون في زيارة الطبيب النفسي “وصمة اجتماعية”.
لكنها تؤكد أن العلاج النفسي لا يمكن أن يُستبدل بالذكاء الاصطناعي، لأنه يعتمد على تقييم شامل يشمل السلوك والعلاقات ونمط الحياة، وهو ما يعجز الذكاء الاصطناعي عن رصده، فضلاً عن أن الطبيب يستوعب المريض، ويلاحظ نبرة صوته وتعابير وجهه ويمنحه احتواءً عاطفيًا لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تقديمه.
وتحذر المير من الاعتماد الكامل على المنصات الذكية، التي قد تفتقر للدقة، وتتجاهل السياقات الثقافية، مما قد يدفع البعض للانعزال بدلًا من العلاج الفعلي.

مسؤولية تقنية
أمين التاجر وفي سياق تقييم فعالية روبوتات المحادثة النفسية، يشير المتخصص في الذكاء الاصطناعي أمين التاجر إلى أن هذه الأدوات قد تتيح للشباب وسيلة آمنة للتعبير، خاصة لمن يصعب عليهم التواصل المباشر، مؤكدًا أن الإحساس بالخصوصية وعدم الكشف عن الهوية يشجع البعض على الحديث بصراحة أكبر.
لكنه يلفت إلى غياب شبه تام للإشراف النفسي والأخلاقي على هذه الأنظمة، التي تُطوَّر غالبًا من دون رقابة تنظيمية واضحة، محذرًا من أن فعالية الذكاء الاصطناعي في الدعم النفسي ترتبط بكيفية تصميم النظام وأهدافه، مما يستدعي وضع ضوابط تحمي المستخدم من الأذى غير المقصود. ويرى التاجر من منظوره أن هذه التطبيقات ممتازة، وقد تكون مفيدة للناس مع مرور الوقت، إذا استُخدمت بشكل صحيح ومدروس.

شريك افتراضي
وفي ظل تزايد اعتماد الشباب على أدوات الذكاء الاصطناعي للحصول على الدعم النفسي، يبرز تساؤل مهم حول حدود هذا الاعتماد ومخاطره، ومع تحول بعض المنصات الذكية إلى بدائل غير رسمية للعيادات النفسية، يقول الذكاء الاصطناعي نفسه عند سؤاله عن لجوء الشباب إليه للحصول على الدعم النفسي عوضًا عن الحصول عليها من الأطباء والمختصين: “أنا أُدرك أن العديد من الشباب يجدون فيّ وسيلة مريحة وسريعة للتعبير عن مشاعرهم، يمكنني تقديم دعم مبدئي ومعلومات مفيدة، لكنني لا أملك وعيًا بشريًا ولا يمكنني تشخيص الحالات النفسية بدقة، أنصح دائمًا بأن يكون حضوري مساعدًا لا بديلاً عن المختصين النفسيين المؤهلين.”

فراغ تشريعي
وفي حين تتبنى الدول العربية استراتيجيات وطنية للذكاء الاصطناعي، إلا أن هناك حاجة ملحة لتطوير تشريعات واضحة تنظم استخدامه في المجالات الحساسة مثل الصحة النفسية، مما يساعد في حماية المستخدمين وضمان استخدام آمن وفعال لهذه التقنيات، وهنا تطرح تساؤلات أمام الهيئات الصحية العربية: هل سيتم اعتبار تقديم المشورة النفسية عبر الذكاء الاصطناعي ممارسة طبية تتطلب ترخيصًا؟ وهل تُلزم الشركات المطورة باتخاذ احتياطات لحماية المستخدمين وخصوصياتهم؟

تفاعل مشروط
وفي ختام التحقيق، يجب التأكيد أن الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة لا بديل عن المختصين، مع ضرورة وجود ضوابط تحمي الخصوصية وتضمن الأمان، كما يجب توعية الشباب بحدود هذه الأدوات وتشجيعهم على اللجوء للمختصين في الحالات الصعبة، كما ينبغي للمعالجين تطوير مهاراتهم الرقمية والتركيز على الجوانب الإنسانية التي لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تعويضها لضمان دعم نفسي فعّال.